فصل: أبو شاكر بن أبي سليمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء **


 أبو سعيد بن أبي سليمان

هو الحكيم مهذب الدين أبو سعيد بن أبي سليمان بن أبي المنى بن أبي فانة كان فاضلاً في صناعة الطب عالماً بها متميزاً في أعمالها متقدماً في الدولة وقرأ علم الطب على أبيه وعلى غيره وكان السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب قدجعله في خدمة ولده الملك المعظم وأكرمه غاية الإكرام وأمر أن لا يدخل قلعة من قلاعه إلا راكباً مع صحة جسمه فكان يدخل في قلاعه الأربعة كذلك وهي قلعة الكرك وقعلة جعبر وقلعة الرها وقلعة دمشق وخدم أبو سعيد بن أبي سليمان الملك الناصر صلاح الدين والملك العادل أيضاً بالطب وانتقل إلى الديار المصرية وأقام بها إلى حين وفاته وتوفي سنة ثلاث عشرة وستمائة ودفن بدير الخندق عند القاهرة‏.‏

 أبو شاكر بن أبي سليمان

هو الحكيم موفق الدين أبوشاكر بن أبي سليمان داود وكان متقناً لصناعة الطب متميزاً في علمها وعملها جيد العلاج مكيناً في الدولة وقرأ صناعة الطب على أخيه أبي سعيد بن أبي سليمان وتميز بعد ذلك واشتهر ذكره وكان السلطان الملك العادل قد جعله في خدمة ولده الملك الكامل فبقي في خدمته وحظي عنده الحظوة العظيمة وتمكن عنده التمكن الكثير ونال في دولته حظاً عظيماً وكانت له منه إقطاعات ضياع وغيرها ولم يزل أبدا يفتقده بالهبات الوافرة والصلات المتواترة وكان أيضاً الملك العادل يعتمد عليه في المداواة ويصفه بحسن العلاج وكان يدخل أيضاً في جميع قلاعه وهو راكب مثل قلعة الكرك وقلعة جعبر وقلعة الرها وقلعة دمشق ثم قلعة القاهرة مع صحة جسمه ولقد بلغ من أمره عند سكن الملك الكامل بقصر القاهرة المحروسة أن أسكنه عنده فيه وكان الملك العادل ساكناً بدار الوزارة وأنه ركب ذات يوم على بغلة النوبة التي له وخرج إلى بين القصرين فركب فرساً آخر وسير بغلته التي كان راكباً عليها إلى دار الحكيم المذكور بالقصر وأمر بركوبه عليها لخروجه من القصر راكباً ولم يزل راكباً بين القصرين إلى أن وصل إليه فأخذ بيده وسايره يتحدث معه إلى دار الوزارة وسائر الوزراء يمشون بين يدي الملك الكامل وللعضد بن منقذ في أبي شاكر هذا الحكيم أبو شاكر كثير المحبين والشاكر خليفة بقراط في عصرنا وثانيه في علمه الباهر وتوفي أبو شاكر بن أبي سليمان في سنة ثلاث عشرة وستمائة ودفن بدير الخندق عند القاهرة‏.‏

 أبو نصر بن أبي سليمان

كان طبيباً عارفاً بصناعة الطب حسن المعالجة جيد العلاج وتوفي بالكرك

 أبو الفضل بن أبي سليمان

كان طبيباً مشكوراً في صناعة الطب عالماً بها متميزاً في المعالجة والمداواة وكان أصغر إخوته وعمر من دونهم كان مولده في سنة ستين وخمسمائة ووفاته في سنة أربع وأربعين وستمائة فمدة حياته أربع وثمانون سنة لم يبلغها أحد من إخوته وكان طبيباً للملك المعظم مقيماً بالكرك ثم خدم الملك الكامل بالديار المصرية وتوفي فيها‏.‏

 رشيد الدين أبو حليقة

هو الحكيم الأجل العالم رشيد الدين أبو الوحش بن الفارس أبي الخير بن أبي سليمان داود بن أبي المنى بن أبي فانة ويعرف بأبي حليقة كان أوحد زمانه في صناعة الطب والعلوم الحكمية متفنناً في العلوم والآداب حسن المعالجة لطيف المداواة رؤوفاً بالمرضى محباً لفعل الخير مواظباً للأمور الشرعية التي هو عليها كثير العبادة ولقد اجتمعت به مرات ورأيت من حسن معالجته وعشرته وكمال مروءته ما يفوق الوصف واشتغل بصناعة الطب في أول أمره على عمه مهذب الدين أبي سعيد بدمشق واشتغل بعد ذلك بالديار المصرية وقرأ أيضاً على شيخنا مهذب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه اللَّه ولم يزل دائم الاشتغال ملازماً للقراءة ومولده بقلعة جعبر وذلك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وخرج منها إلى الرها وربي بها مدة سبع أو ثمان سنين وكان والده يلبسه لباس الجندية مثل لباسه وكان ساكناً بدار يقال لها دار ابن الزعفراني عند باب شاع بالرها وكانت هذه الدار ملاصقة لدار السلطان فاتفق أن الملك الكامل دخل فيها الحمام فأعطاه والده الفارس المذكور فاكهة وماء ورد وأمره بحمله إلى السلطان فحمله إليه فلما خرج من الحمام وقدمه إليه أخذه ودخل به إلى الخزانة وفرغ تلك الأطباق الفاكهة وملأها له شقاقاً سنية وسيرها مع غلامه لوالده وأخذ الملك الكامل بيده وكان عمره يومئذ نحو ثمان سنين ودخل إلى الملك العادل وعندما أبصره الملك العادل ولم يكن رآه قبلها قط قال للملك الكامل يا محمد هذا ابن الفارس لأنه أخذه بالشبه فقال نعم قال هاته إلي فحمله الملك الكامل ووضعه بين يديه فمسك بيده وتحدث معه حديثاً طويلاً ثم التفت إلى والده وقد كان قائماً في خدمته مع جملة القيام وقال له ولدك هذا ولد ذكي لا تعلمه الجندية فالأجناد عندنا كثيرون وأنتم بيت مبارك وقد استبركنا بطبكم وتسيره إلى الحكيم أبي سعيد إلى دمشق ليقرئه الطب فامتثل والده الأمر وجهزه وسيره إلى دمشق أقام فيهامدة سنة كاملة حفظ فيها كتاب الفصول لأبقراط وتقدمة المعرفة ثم وصل إلى القاهرة في سنة تسع وخمسمائة ولم يزل مقيماً بها وخدم بصناعة الطب الملك الكامل وكان كثير الاحترام له حظياً عنده وله منه الإحسان الكثير والإنعام المتصل وله خَبَزٌ بالديار المصرية وهو الذي كان مقطعاً باسم عمه موفق الدين أبي شاكر فإنه لما توفي أبو شاكر جعل الملك الكامل هذا الخبز باسم رشيد الدين المذكور وهو نصف بلد يعرف بالعزيزية والخربة من أعمال الشرقية ولم يزل ثم خدم بعده ولده الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى أن توفي الملك الصالح رحمه اللَّه وخدم أيضاً ولد الملك الصالح بعد ذلك وهو الملك المعظم ترنشاه ولما قتل رحمه اللَّه وذلك في يوم الاثنين سابع وعشرين المحرم سنة ثمان وأربعين وستمائة وجاءت دولة الترك واستولوا على البلاد واحتووا على الممالك صار في خدمتهم وأجروه على ما كان باسمه ثم خدم منهم الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الملك الصالح وبقي في خدمته على عادته المستمرة وقاعدته المستقرة وله منه الاحترام التام وجزيل الإنعام والإكرام وللحكيم رشيد الدين أبي حليقة نوادر في أعمال صناعة الطب وحكايات كثيرة تميز بها على غيره من جماعة الأطباء‏.‏

ومن ذلك أنه مرضت دار من بعض الآدر السلطانية بالعباسية وكان من سيرته معه أن لا يشرك معه طبيباً في مداوته وفي مداواة من يعز عليه من دوره وأولاده فباشر مداواة المريضة المذكورة أياماً قلائل ثم حصل له شغل ضروري ألجأه إلى ترك المريضة ودخل القاهرة وأقام بها ثمانية عشر يوماً ثم خرج إلى العباسية فوجد المريضة قد تولى مداواتها الأطباء الذين في الخدمة فلما حضر وباشر معهم قالوا له هذه المريضة تموت والمصلحة أن نعلم السلطان بذلك قبل أن يفاجئه أمرها بغتة فقال لهم إن هذه المريضة عندي ما هي في مرضة الموت وإنها تعافى بمشيئة اللَّه تعالى من هذه المرضة فقال له أحدهم وهو أكبرهم سناً وكان الحكيم المذكور شاباً إنني أكبر منك وقد باشرت من المرضى أكثر منك فتوافقني على كتابة هذه الرقعة فلم يوافقه فقالت جماعة الحكماء لا بد لنا من المطالعة فقال لهم إن كان لا بد لكم من هذه المطالعة فيكون بأسمائكم من دوني فكتب إليه الأطباء بموتها فسير إلهم رسولاً ومعه نجار ليعمل لها تابوتاً تحمل فيه ولما وصل الرسول والنجار معه إلى الباب والأطباء جلوس قال له الحكيم المذكور ما هذا النجار قال يعمل تابوتاً لمريضتكم فقال له تضعونها فيه وهي في الحياة فقال الرسول لا لكن بعد موتها قال له ترجع بهذا النجار وتقول للسلطان عني خاصة إنها في هذه المرضة لا تموت فرجع وأخبره بذلك‏.‏

فلما كان الليل استدعاه السلطان بخادم وشمعة وورقة بخطه يقول فيها ولد الفارس يحضر إلينا لأنه لم يكن بعد سمي أبا حليقة وإنما سماه بذلك فيما بعد السلطان الملك الكامل فإنه كان في بعض الأيام جالساً مع الأطباء على الباب فقال السلطان للخادم في أول مرة اطلب الحكيم فقال له يا خوند أي الحكماء هو فقال له أبو حليقة فاشتهر بين الناس بهذا الاسم من ذلك اليوم إلى حيث غطى نعته ونعت عمه الذي كانوا يعرفون به ببني شاكر فلما وصل إليه قال أنت منعت عمل التابوت فقال نعم قال بأي دليل ظهر لك هذا من دون الأطباء كلهم قال له يا مولانا لمعرفتي مزاجها وبأوقات مرضها على التحرير من دونهم وليس عليها بأس في هذه المرضة فقال له امض وطبها واجعل بالك لها فطب المذكورة وعوفيت ثم أخرجها السلطان وزوجها وولدت من زوجها أولاداً كثيرين‏.‏

ومن جملة ما تم أيضاً له أنه حكم معرفة نبض الملك الكامل حتى أنه في بعض الأيام خرج إليه من خلف الستارة مع الآدر المرضى فرأى نبض الجميع ووصف لهم فلما انتهى إلى نبضه عرفه فقال هذا نبض مولانا السلطان وهو صحيح بحمد اللَّه فتعجب منه غاية العجب وزاد تمكنه عنده‏.‏

ومن حكاياته معه أنه أمره بعمل الترياق الفاروق فاشتغل بعمله مدة طويلة ساهراً عليه الليل حتى حقق كل واحد من مفرداته اسماً على مسمى بشهادة أئمة الصناعة أبقراط وجالينوس وفي غضون ذلك حصل للسلطان نزلة على أسنانه فأفصد بسببها وهو ببركة الفيل يتفرج بها فطلع إلى القلعة وتولى مداواته الأسعد الطبيب بن أبي الحسن بسبب شغل المذكور بعمل الترياق فعالجة الأسعد مدة والحال كلما مر اشتد فشكا ذلك للأسعد فقال له ما بقي قدامي إلا الفصد فقال له أفصد مرة أخرى ولي عن الفصد ثلاثة أيام اطلبوا لي أبا حليقة فحضر إليه وشكا له حاله وأعلمه أن ذلك الطبيب قد أشار عليه بالفصد واستشاره فيه أو في شرب دواء فقال يا مولانا بدنك بحمد اللَّه نقي والأمر أيسر من هذا كله فقال له السلطان إيش تقول لي أيسر وأنا في شدة عظيمة من هذا الألم لا أنام الليل ولا أقر النهار فقال له يتسوك مولانا من الترياق الذي حمله المملوك في البرنية الفضة الصغيرة وترى بإذن اللَّه العجب وخرج إلى الباب ولم يشعر إلا بورقة بخط السلطان قد خرجت إليه وهو يقول فيها يا حكيم استعملت ما ذكرت فزال جميع ما بي لوقته وكان ذلك بحضور الأسعد الطبيب الذي كان يعالجه أولاً فقال له ونحن ما نصلح لمداواة الملوك ولا يصل لمداواتهم إلا أنتم ثم دخل الملك الكامل إلى خزنته وبعث إليه منها خلعاً سنية وذهباً متوفراً‏.‏

ومن حكاياته أنه لما طال عليه عمل الترياق الفاروق لتعذر حضور أدويته الصحيحة من الآفاق عمل ترياقاً مختصراً توجد أدويته في كل مكان ونوى أنه لا يقصد به قرباً من ملك ولا طلب مال ولا جاهاً في الدنيا ولا يقصد به إلا التقرب إلى اللَّه ينفع خلقه أجمعين والشفقة على سائر العالمين وبذله للمرضى فكان يخلص به المفلجين ويقوم به الأيدي المتقوسة لوقته وساعته بحيث كان ينشئ في العصب زيادة في الحرارة الغريزية وتقوية وإذابة البلغم الذي فيه فيجد المريض الراحة به لوقته ويسكن وجع القولنج من بعد الاستفراغ لوقته وإنه مر على بواب الباب الذي بين السورين بالقاهرة المحروسة وهو رجل يعرف بعلي وهو ملقى على ظهره لا يقدر أن ينتصب من جنب إلى جنب فشكا إليه حاله فأعطاه منه شربة وطلع القلعة وباشر المرضى وعاد في الساعة الثالثة من النهار فقام المفلوج يعدو في ركابه يدعو له فقال له اقعد فقال يا مولانا قد شبعت قعوداً خليني أتملى بنفسي‏.‏

ومن حكاياته أن الملك الكامل كان عنده مؤذن يعرف بأمين الدين جعفر حصل له حصاة سدت مجرى البول وقاسى من ذلك شدة أشرف فيها على الموت فكتب إلى الملك الكامل وأعلم بحاله وطلب منه دستوراً يمشي إلى بيته يتداوى فلما حضر إلى بيته أحضر أطباء العصر فوصف كل منهم له ما وصف فلم ينجع فاستدعى الحكيم أبا حليقة المذكور فأعطاه شربة من ذلك الترياق فبمقدار ما وصلت إلى معدته نفذت قوتها إلى موضع الحصاة ففتتتها وخرجت من الإراقة وهي مصبوغة بالدواء‏.‏

وخلص لوقته وخرج لخدمة سلطانه وأذن أذان الظهر وكان السلطان يومئذ مخيماً على جيزة القاهرة فلما سمع صوته أمر بإحضاره إليه فلما حضر قال له ما ورقتك بالأمس وصلتنا وأنت تقول إنك كنت على الموت فأخبرني أمرك فقال يا مولانا الأمر كان كذلك لولا لحقني مملوك مولانا الحكيم أبو حليقة فأعطاني ترياقاً خلصت به للوقت والحال واتفق أن في ذلك اليوم جلس إنسان ليريق ماء فنهشته أفعى في ذكره فقتلته فلما سمع السلطان بخبره رق عليه لأنه كان رؤوفاً بالخلق ثم دخل إلى قلعة القاهرة بات بها وأصبح من باكر والحكيم المذكور قاعد في الخدمة عند زمام الدار على الباب والسلطان قد خرج فوقف واستدعاه إليه وقال له يا حكيم أيش هذا الترياق الذي عملته واشتهر نفعه للناس هذه الشهرة العظيمة ولم تعلمني به قط فقال يا مولانا المملوك لا يعمل شيئاً إلا لمولانا وما سبب تأخير إعلامه إلا ليجربه المملوك لأنه هو الذي أنشأه فإذا صحت له تجربته ذكره لمولانا على ثقة منه وإذ قد صح هذا لمولانا فقد حصل المقصود فقال له تمضي وتحضر لي كلما عندك منه وترك خادماً قاعداً على الباب في انتظاره ورجع إلى داره كأنه لم يطلع القلعة في تلك الليلة ولا خرج من الدار في تلك الساعة إلا لهذا المهم خاصة فمضى الحكيم المذكور إلى داره فوجد عنده من ذلك الترياق شيئاً يسيراً لأن الخلق كانت تفنيه مما تطلبه منه فمضى إلى أصدقائه الذين كان أهدى لهم منه شيئاً وجمع منه مقدار أحد عشر درهماً ووعدهم بأنه يعطيهم عوضاً عنه أضعافه فجعله في برنية فضة صغيرة وكتب عليه منافعه ومقدار الشربة منه وحملها إلى الخادم المذكور القاعد في انتظاره فحملها إلى السلطان ولم يزل حافظاً لها فلما آلمته أسنانه دلكه عليها فحصل له منه من الراحة ما ذكر‏.‏

ومن حكاياته معه أنه كان قد عرض لبعض جهاته مرض عجز عن مداواته فسيرت تلك الجهة تقول له أنا أعرف أن السلطان لو عرف أن في الديار المصرية طبيباً خيراً منك لما سلم نفسه وأولاده اإليك من دون كافة الأطباء فأنت ماتؤتى في مداواتي من قلة معرفة بل من التهاون بأمري بدليل أنك تمرض فتداوي نفسك في أيام يسيرة وكذلك يمرض أحد أولادك فتداويه في أيام يسيرة أيضاً وكذلك بقية الجهات التي عندنا ما منهم إلا من تداويه وتنجع مداواتك بأيسر سعي فقال لها ما كل الأمراض تقبل المداواة ولو قبلت الأمراض كلها المداواة لما مات أحد فلم تسمع ذلك منه وقالت أناأعرف أن ما بقي في الديار المصرية طبيب وأنا أشير إلى السلطان يستخدم لي أطباء من دمشق فاستخدم لها طبيبين نصرانيين فلما حضرا لمداواتها من دمشق اتفق سفر السلطان إلى دمياط فاستؤذن من يمضي معه من الأطباء ومن يترك فقال الأطباء كلهم يبقون في خدمة تلك الجهة والحكيم فلان وحده يكون معي فأما أولئك الأطباء فإنهم عالجوها بل ما يقدرون عليه وتعبوا في مداواتها فلم ينجع فانبسط في ذلك عذر المذكور وأورد ما ذكر أبقراط في تقدمة المعرفة‏.‏

ثم إنه لما سافر مع السلطان بقي في خدمته مدة شهر لم يتفق له أن يستدعيه وبعد ذلك بدمياط استدعاه ليلاً فحضر بين يديه فوجده محموماً ووجد به أعراضاً مختلفة يباين بعضها بعضاً فركب له مشروباً يوافق تلك الأعراض المختلفة وحمله إليه في السحر فلم تغب الشمس إلا وقد زال جميع ما كان يشكوه فحسن ذلك عنده جداً ولم يزل ملازماً لاستعمال ذلك التدبير إلى أن وصل إلى الاسكندرية واتفق أول يوم من صيام شهر رمضان أن الحكيم المذكور مرض بها فحضر إليه الأطباء الذين في الخدمة واستشاروه فيما يحملون إلى السلطان يفطرعليه فقال لهم عنده مشروب قد جربه وهو يثني عليه ويطلبه دائما فما دام لا يشكو لكم شيئاً متجدداً يمنع من استعماله فاحملوه إليه وإن تجدد لكم شيء فاستعلموا ما تقتضيه المصلحة الحاضرة فمضوا ولم يقبلوامنه قصداً منهم أن يجددوا تدبيراً من جهتهم فلما جددوا ذلك التدبير تغير عليه مزاجه فاستدعاهم واستدعى نسخة الحكيم المذكور وأخذ يحاققهم عليها فكان من جملة ما فيها بزر هندبا وقد حذفوه فقال لهم لماذا حذفتم هذا البزر وهو مقو للكبد منق للعروق قاطع للعطش فقال أحد الأطباء الذين حضروا واللَّه ما للمماليك في حذفه ذنب إلا أن الأسعد بن أبي الحسن نقل في بزر الهندبا نقلاً شاذاً بأنه يضر بالطحال المملوك واللَّه ما يعرفه وزعم أن بمولانا طحالاً فوافقه المماليك على ذلك فقال واللَّه يكذب أنا ما بي وجع طحال وأمر بإعادة بزر الهندبا إلى مكانه ثم حاققهم على منفعة دواء من مفردات ذلك المشروب التي حذفوها إلى أن أعادوها وأعاد استعماله دائماً ولم يزل منتفعاً به شاكراً له‏.‏

ومن حكاياته أنه طلب منه يوماً أن يركب له صلصاً يأكل به اليخني في الأسفار واقترح عليه أن يكون مقوياً للمعدن منبهاً للشهوة وهو مع ذلك ملين للطبخ فركب له صلصاً هذه صفته يؤخذ من المقدونس جزء ومن الريحان الترنجاني وقلوب الأترج الغضة المحلاة بالماء والملح أياماًثم بالماء الحلو أخيراً من كل واحد نصف جزء يدق في جرن الفقاعي كل منهم بمفرده حتى يصير مثل المرهم ثم يخلط الجميع في الجرن المذكور ويعصر عليه الليمون الأخضر المنتقى ويذر عليه من الملح الأندراني مقدار ما يطيبه ثم يرفع في مسللات صغار تسع كل واحدة منها مقدار ما يقدم على المائدة لأنها إذا نقصت تكرجت وتختم تلك الأواني بالزيت الطيب وترفع فلما استعمله السلطان حصلت له منه المقاصد المطلوبة وأثنى عليه ثناء كثيراً وكان مسافراً إلى بلاد الروم فقال للحكيم المذكور هذا الصلص يدوم مدة طويلة فقال له لا فقال ما يقيم شهراً فقال له نعم إذا عمل على هذه الصورة التي ذكرتها فقال تعمل لي منه راتباً في كل شهر ما يكفيني في مدة ذلك الشهر وتسيره لي في رأس كل هلال فلم يزل الحكيم المذكور يجدد ذلك الصلص في كل شهر ويسيره له إلى دربندات الروم وهو يلازم استعماله في الطريق ويثني عليه ثناء كثيراً‏.‏

ومن نوادره أنه جاءت إليه امرأة من الريف ومعها ولدها وهو شاب قد غلب عليه النحول والمرض فشكت إليه حال ولدها وأنها قد أعيت فيه من المداواة وهو لا يزداد إلا سقاماً ونحولاً وكانت قد جاءت إليه بالغداة قبل ركوبه وكان الوقت بارداً فنظر إليه واستقرأ حاله وجس نبضه فبينما هو يجس نبضه قال لغلامه ادخل ناولني الفرجية حتى أجعلها علي فتغير نبض ذلك الشاب عند قوله تغيراً كبيراً واختلف وزنه وتغير لونه أيضاً فحدس أن يكون عاشقاً ثم جس نبضه بعد ذلك فتساكن وعندما خرج الغلام إليه وقال له هذه الفرجية جس نبضه فوجده أيضاً قد تغير فقال لوالدته إن ابنك هذا عاشق والتي يهواها اسمها فرجية فقالت أي واللَّه يا مولاي هو يحب واحدة اسمها فرجية وقد عجزت مما أعذله فيها وتعجبت من قوله لها غاية التعجب ومن اطلاعه على اسم المرأة من غير معرفة متقدمة له لذلك أقول ومثل هذه الحاية كانت قد عرضت لجالينوس لما عرف المرأة العاشقة وذلك أنه كان قد استدعي إلى امرأة جليلة القدر وكان المرض قد طال بها وحدس أنها عاشقة فتردد إليها ولما كان يوماً وهو يجس نبضها وكانت الأجناد قد ركبوا في الميدان وهم يلعبون فحكى بعض الحاضرين ما كانوا فيه وأن فلاناً تبينت له فروسية ولعب جيد وعندما سمعت باسم ذلك الرجل تغير نبضها واختلف جسه بعد ذلك فوجده قد تساكن إلى أن عاد إلى حاله الأول ثم إن جالينوس أشار لذلك الحاكي سراً أن يعيد قوله فلما أعاده وجس نبضها وجده أيضاً قد تغير فتحقق من حالها أنها تعشق ذلك الرجل وهذا يدل على وفور العلم وحسن النظر في تقدمة المعرفة أقول وجماعة أهل الحكيم رشيد الدين أبي حليقة أكثر شهرتهم في الديارالمصرية والشام ببني شاكر لشهرة الحكيم أبي شاكر وسمعته الذائعة فصار كل من له نسب إليه يعرفون ببني شاكر وإن لم يكونوا من أولاده ولما اجتمعت بالحكيم رشيد الدين أبي حليقة وكان قد بلغه أنني ذكرت الأطباد المشهورين من أهله ووصفت فضلهم وعلمهم فتشكر مني وتفضل فأنشدته بديهاَ وكيف لا أشكر من فضلهم قد صار في المشرق والمغرب تشرق منهم في سماء العلا نجوم سعد قط لم تغرب قوم ترى أقدارهم في الورى بالعلم تسمو رتبة الكواكب كم صنفوا في الطب كتباً أتت بكل معنى مبدع مغرب وإن شكري في بني شاكر ما زال في الأبعد والأقرب خلدت مجداً دائماً فيهم بحسن وصف وثنا طيب وأما سبب الحلقة التي وضعت في أذن الرشيد واشتهر بها اسمه فإن والده لم يعش له ولد ذكر غيره فوصف له ووالدته حامل به أن يهيئ له حلقة فضة قد تصدق بفضتها وفي الساعة التي يخرج فيها إلى العالم يكون صائغ مجهزاً يثقب أذنه ويضع الحلقة فيها ففعل ذلك وأعطاه اللَّه الحياة فعاهدته والدته أن لا يقلعها فبقيت ثم تزوج هو وجاءه أولاد ذكور عدة ويموتون كما جرى الحال في أمره فتنبه إلى عمل الحلقة المذكورة فعملها لولده الكبير المعروف بمهذب الدين أبي ومن شعر الحكيم رشيد الدين أبي حليقة وهو مما أنشدني لنفسه فمن ذلك قال بحضرة سيف الإسلام سمع الحبيب بوصله في ليلة غفل الرقيب ونام عن جنباتها في روضة لولا الزوال لشابهت جنات عدن في جميع صفاتها فالطير يطرب في الغصون بصوته والراح تجلى في كؤوس سقاتها ومجالس القمر المنير تنزهت فيه الحواس باسمها وكناتها وقال أيضاً أحن إلى ذكر التواصل يا سعد حنين النياق العيس عَنَّ لها الورد فسعدي على قلبي ألذ من المنى وقربي لها عند اللقاء هو القصد حوت مبسماً كالدر أضحى منظماً وثغراً كمثل الأقحوان به شهد وفرعاً كمثل الليل أو حظ عاشق ووجهاً كضوء الصبح هذا لذا ضد أقول لها عند الوداع وبيننا حديث كنشر المسك خالطه ند ترى نلتقي بعد الفراق بمنزل ويظفر مشتاق أضر به البعد عشقت سيوف الهند من أجل أنها تشابهها في فعل ألحاظها الهند ولي في الرماح السمر سمر لأنها تشابهها قداً فيا حبذا القد وفي الورد معنى شاهد فوق خدها نشاهده فيها إذا عدم الورد وبي من هواها ما جحدت وعبرت به عبرتي يوماً وما نفع الجحد وقال أيضاً خليلي إني قد بقيت مسهداً من الحب مأسور الفؤاد مقيدا بحب فتاة يخجل البدر وجهها ولا سيما في ليل شعر إذا بدا ضللت بها وهي الهلال ملاحة فوا عجباً منه أضل وما هدى لها مبسم كالدر أضحى منظماً ونطق كمثل الدر أمس مبددا وقال أيضاً لما كان بدمياط ومرض والده في القاهرة فجاءه كتابه بعافيته مطرت على سحائب النعماء مذ زال ما تشكو من البلواء ولبست مذ أبصرت خطك نعمة فيها أقوم لشكرها بوفاء ولرشيد الدين أبي حليقة من الكتب مقالة في حفظ الصحة مقالة في أن الملاذ الروحانية ألذ خاصة وإن زادت أوقعت في آلام أخر كتاب في الأدوية المفردة سماه المختار في الألف عقار كتاب في الأمراض وأسبابها وعلاماتها ومداواتها بالأدوية المفردة والمركبة التي قد أظهرت التجربة نجحها ولم يداو بها مرضاً يؤدي إلى السلامة إلا ونجحت التقطها من الكتب المصنفة في صناعة الطب من آدم وإلى وقتنا هذا ونظم متشتتها ومتفرقها مقالة في ضرورة الموت ولما ذكر من التحليل في هذه المقالة أن الإنسان لم يزل يتحلل من بدنه بالحرارة التي في داخله وبحرارة الهواء الذي من خارجه كانت نهايته إلى الفناء بهذين السببين وتمثل بعد ذكرهما بهذا البيت واحدهما قاتلي فكيف إذا استجمعا وهذا البيت فيما يكون موقعه بأولى مما هو في هذا الموضع فإنه قد جاء موافقاً لما أورده ومطابقاً للمعنى المقصود إليه‏.‏

مهذب الدين أبوسعيد محمد أبي حليقة أوحد العلماء وأكمل الحكماء مولده في القاهرة سنة عشرين وستمائة وسمي محمداً لما أسلم في أيام الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الملكي الصالحي وهو فقد منحه اللَّه من العقل أكمله ومن الأدب أفضله ومن الذكاء أغزره ومن العلم أكثره قد أتقن الصناعة الطبية وعرف العلوم الحكمية فلا أحد يدانيه فيمايعانيه ولا يصل إلى الخلائق الجميلة التي اجتمعت فيه لطيف الكلام جزيل الإنعام إحسانه إلى الصديق والنسيب والبعيد والقريب وصلني كتابه وهو في المعسكر المنصور الظاهري في شهر شوال سنة سبع وستين وستمائة وهو يعرب عن فضل باهر وعلم وافر وفطنة أصمعية وشنشنة أخزمية وتودد عظيم وإحسان جسيم ويقول فيه إنه وجد بمصر نسخة من هذا الكتاب الذي ألفته في طبقات الأطباء وقد اقتناها وصارت في جملة كتبه التي حواها وبالغ في الوصف الذي يدل على كرم أخلاقه وطيب أعراقه وكان في أول كتابه الواصل إلي وإني أمرؤ أجبتكم لمحاسن سمعت بها والأذن كالعين تعشق فقلت على الوزن والروي وكتبت إليه الجواب أتاني كتاب وهو بالنقش مونق وفيه المعاني وهي كالشمس تشرق كتاب كريم أريحي ممجد صبيح المحيا نوره يتألق هو السيد المولى المهذب والذي به قد زها في العلم غرب ومشرق حكيم حوى كل العلوم بأسرها وما عنه باب للمكارم يغلق كريم لأنواع المحامد جامع ولكنه للمال جوداً مفرق حوى قصبات السبق في طلب العلا ومن رام تشبيهاً به ليس يلحق إذا قال بذ القائلين بلاغة ويصمت قس عنده حين ينطق ولو أن جالينوس كان لوقته لقال بهذا في التطبب يوثق فما أحد يحكيه في حفظ صحة ولا مثله في الجسم للداء يحدق إذا قلت مدحاً في معالي محمد فكل امرئ فيما أقول يصدق ولو رمت أحصي ما حواه من العلا عجزت ولو أني البليغ الفرزدق ولا غرو في ابني حليقة أنني بصدق الولا في قبضة الرق موثق لوالدهم عندي أياد قديمة فشكري لهم طول الزمان محقق وكل ففي العلياء سام وسيما لمن قال لي إذ جد فيه التشوق وإني امرؤ أحببتكم لمحاسن سمعت بها والأذن كالعين تعشق فلا برحوا في نعمة وسلامة مؤبدة ما دامت الدوح تورق ولم يزل مهذب الدين أبو سعيد محمد ملازماً للاشتغال محمود السيرة في الأقوال والأفعال وقرأعلى أبيه الصناعة الطبية وحرر أقسامها الكلية والجزئية وحصل معانيها العلمية والعملية وخدم السلطان الملك الظاهر بيبرس الملكي الصالح بصناعة الطب وله منه غاية الاحترام وأوفر الإنعام والمنزلة الجميلة والعطايا الجزيلة ولمهذب الدين المذكور أخوان أحدهما موفق الدين أبو الخير متميز في صناعة الكحل غزير العلم والفضل وكان قد صنف للملك الصالح نجم الدين كتاباً في الكحل من قبل أن يصير له من العمر عشرون سنة والأخ الآخر علم الدين أبو نصر وهو الأصغر مفرط الذكاء معدود من جملة العلماء متميز في صناعة الطب وافر العلم واللب‏.‏

ولمهذب الدين محمد بن أبي حليقة من الكتب كتاب في الطب‏.‏

رشيد الدين أبو سعيد هو الحكيم الأجل العالم أبو سعيد بن موفق الدين يعقوب من نصارى القدس وكان متميزاً في صناعة الطب خبيراً بعلمها وعملها حاد الذهن بليغ اللسان حسن اللفظ واشتغل في العربية على شيخنا تقي الدين خزعل بن عسكر بن خليل وكان هذا الشيخ في علم النحو أوحد زمانه ثم اشتغل الحكيم رشيد الدين أبو سعيد بعد ذلك بعلم الطب على عمي الحكيم رشيد الدين علي بن خليفة لما كان في خدمة السلطان الملك المعظم وقرأ عليه ولم يكن في تلامذته مثله فإنه لازمه حق الملازمة وكان لا يفارقه في سفره وحضره وأقام عنده بدمشق وهو دائم الاشتغال عليه إلى أن أتقن حفظ جميع ما ينبغي أن يحفظ من الكتب التي هي مبادي لصناعة الطب ثم قرأ عليه كثيراً من كتب جالينوس وغيرها وفهم ذلك فهماً لا مزيد عليه واشتغل أيضاً على شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي ولما كان في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة قرت له جامكية في خدمة الملك الكامل وبقي في خدمته زماناً بالقاهرة ثم خدم بعد ذلك الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل وبقي في خدمته نحو تسع سنين‏.‏

وكان قد عرض للملك الصالح نجم الدين وهو بدمشق أكلة في فخذه وكان يعالجه الحكيم رشيد الدين أبو حليقة ولما طال الأمر بالملك الصالح استحضر أبا سعيد وشكا حاله إليه وكان بين الحكيم رشيد الدين أبي حليقة وبين رشيد الدين أبي سعيد منافسة ومناقشة وتكلم أبو سعيد في أن معالجة أبي حليقة لم تكن على الصواب فنظر الملك الصالح إلى أبي حليقة نظر غضب فقام من بين يديه وقعد على باب دار السلطان وبقي أبو سعيد فيما هو فيه من المناواة في المداواة ثم في أثناء ذلك المجلس بعينه قدام السلطان عرض لأبي سعيد فالج وبقي ملقى قدامه فأمر السلطان بحمله إلى داره وبقي أربعة أيام بحاله تلك ومات وكانت وفاته بدمشق في العشر الأخير من شهر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة ثم إن الملك الصالح توجه إلى الديار المصرية وقوي مرضه ولم يزل به إلى أن توفي رحمه اللَّه وكانت وفاته في يوم الاثنين خامس عشر شعبان سنة سبع وأربعين وستمائة بعد أن كان عظيم الشأن قوي السلطان ولما أتاه الممات وحل به هادم اللذات ذهب كأنه لم يكن وكذلك يفعل بأهله الزمان كما قلت احذر زمانك ما استطعت فإنه دهر يجور على الكرام وإن عدل قد كان نجم الدين أيوب الذي ملك البرية واستطال على الدول في صحة بسعوده حتى عثا في جسمه داء فأعيته الحيل وصفت له الدنيا وظن بأنها تبقى له أبداً ففاجأه الأجل وعلى الحقيقة أنه نجم علا وكذا النجوم وبعد ذلك قد أفل ولرشيد الدين أبي سعيد من الكتب عيون الطب صنفه للملك الصالح نجم الدين أيوب وهو من أجل كتاب صنف في صناعة الطب ويحتوي على علاجات مخلصة مختارة تعاليق على كتاب الحاوي لأبي بكر الرازي في الطب‏.‏

 أسعد الدين بن أبي الحسن

هو الحكيم الأوحد العالم أسعد الدين عبد العزيز بن أبي الحسن علي من أفاضل العلماء وأعيان الفضلاء حاد الذهن كثير الاعتناء بالعلم قد أتقن الصناعة الطبية وحصل العلوم الحكمية وكان أيضاً عالماً بأمور الشرع مسموع القول وكان قد اشتغل بصناعة الطب على أبي زكريا يحيى البياسي في ديار مصر وخدم الملك المسعود أقسيس بن الملك الكامل وأقام معه باليمن مدة وله منه الاحترام الكثير والإحسان الغزير وكان قرر له منه في كل شهر مائة دينار مصرية ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك المسعود رحمه اللّه ثم أطلق له الملك الكامل إقطاعات يستغلها في كل سنة بالديار المصرية ورسم بانتظامه في سلك الخدمة وكان مولد أسعد الدين بالديار المصرية في سنة سبعين وخمسمائة وكان أبوه طبيباً أيضاً بديار مصر واشتغل الشيخ أسعد الدين بعلم الأدب والشعر وله شعر جيد وأول اجتماعي به كان بدمشق في مستهل رجب سنة ثلاثين وستمائة فوجدته شيخاً حسن الصورة مليح الشيبة تام القامة أسمر اللون حلو الكلام غزير المروءة واجتمعت به أيضاً بعد ذلك بمصر وأحسن إلي واشتمل علي وكان صديقاً لأبي من السنين الكثيرة وكانت وفاة الأسعد المذكور بالقاهرة سنة خمس وثلاثين وستمائة‏.‏

ولأسعد الدين بن أبي الحسن من الكتب كتاب نوادر الألباء في امتحان الأطباء صنفه للملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب‏.‏

هو الحكيم الأجل العالم أبو محمد عبد اللَّه بن أحمد المالقي النباتي ويعرف بابن البيطار أوحد زمانه وعلامة وقته في معرفة النبات وتحقيقه واختياره ومواضع نباته ونعت أسمائه على اختلافها وتنوعها سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم ولقي جماعة يعانون هذا الفن وأخذ عنهم معرفة نبات كثير وعاينه في مواضعه واجتمع أيضاً في المغرب وغيره بكثير من الفضلاء في علم النبات وعاين منابته وتحقق ماهيته وأتقن دراية كتاب ديقوريدس إتقانا بلغ فيه إلى أن لا يكاد يوجد من يجاريه فيما هو فيه وذلك أنني وجدت عنده من الذكاء والفطنة والدراية في النبات وفي نقل ما ذكره ديسقوريدس وجالينوس فيه ما يتعجب منه وأول اجتماعي به كان بدمشق في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة ورأيت أيضاً من حسن عشرته وكمال مروءته وطيب أعراقه وجودة أخلاقه ودرايته وكرم نفسه ما يفوق الوصف ويتعجب منه‏.‏

ولكن شاهدت معه في ظاهر دمشق كثيراً من النبات في مواضعه وقرأت عليه أيضاً تفسيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس فكنت أجد من غزارة علمه ودرايته وفهمه شيئاً كثيراً جداً وكنت أحضر لدينا عدة من الكتب المؤلفة في الأدوية المفردة مثل كتاب ديسقوريدس وجالينوس والغافقي وأمثالها من الكتب الجليلة في هذا الفن فكان يذكر أولا ما قاله ديسقوريدس في كتابه باللفظ اليوناني على ما قد صححه في بلاد الروم ثم يذكر جمل ما قاله ديسقوريدس من نعته وصفته وأفعاله ويذكر أيضاً ما قاله جالينوس فيه من نعته ومزاجه وأفعاله وما يتعلق بذلك ويذكر أيضاً جملاً من أقوال المتأخرين وما اختلفوا فيه ومواضع الغلط والاشتباه الذي وقع لبعضهم في نعته فكنت أراجع تلك الكتب معه ولا أجده يغادر شيئاً مما فيها وأعجب من ذلك أيضاًأنه كان ما يذكر دواء إلا ويعين في أي مقالة هو من كتاب ديسقوريدس وجالينوس وفي أي عدد هو من جملة الأدوية المذكورة في تلك المقالة وكان في خدمة الملك الكامل محمد بن أبي بكر بن أيوب وكان يعتمد عليه في الأدوية المفردة والحشائش وجعله في الديار المصرية رئيساً على سائر العشابين وأصحاب البسطات ولم يزل في خدمته إلى أن توفى الملك الكامل رحمه اللَّه بدمشق وبعد ذلك توجه إلى القاهرة فخدم الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل وكان حظياً عنده متقدماً في أيامه وكانت وفاة ضياء الدين العشاب رحمه اللَّه بدمشق في شهر شعبان سنة ست وأربعين وستمائة فجأة‏.‏

ولضياء الدين بن البيطار من الكتب كتاب الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام شرح أدوية كتاب ديسقوريدس كتاب الجامع في الأدوية المفردة وقد استقصى في ذكر الأدوية المفردة وأسمائها وتحريرها وقواها ومنافعها وبين الصحيح منها وما وقع الاشتباه فيه ولم يوجد في الأدوية المفردة كتاب أجل ولا أجود منه وصنفه للملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل كتاب المغني في الأدوية المفردة وهو مرتب بحسب مداواة الأعضاء الآلمة كتاب الأفعال الغريبة والخواص العجيبة‏.‏